بين السلطة والصورة: ولد الغزواني وصناعة الصمت في الزمن الإعلامي الجديد….بقلم / أحمد العالم

في زمنٍ تتسابق فيه الأنظمة على احتلال واجهات الإعلام والتواصل، اختار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني طريقًا مغايرًا: أن يتحدث قليلًا، وأن يعمل كثيرًا، وأن يترك للصمت أن يتكفّل بما لا تريد الكلمات قوله.
لكنّ الصمت في السياسة ليس فراغًا؛ بل أداة لإدارة المعنى، ولرسم الحدود بين ما يُقال وما يُفهم.
ومن هنا تبدأ حكاية الرئيس مع الإعلام، ومع الصورة، ومع السلطة ذاتها.
من غياب الواجهة إلى هندسة الظهور
منذ تولّيه السلطة عام 2019، بدا واضحًا أن الغزواني لا يؤمن بالاستعراض الإعلامي، ولا بشخصنة السلطة. على النقيض من بعض أسلافه، لم يجعل من الكاميرا جزءًا من حياته اليومية، بل جعلها ضيفًا مدعوًّا لا صاحب بيت.
ابتعد عن المقابلات المحلية، وفضّل أن يُطلّ من نوافذ الصحافة الدولية، كمن يقول إن رسائله موجّهة إلى من يراقبون موريتانيا من الخارج بقدر ما تُوجّه إلى الداخل.
وفي كل مرة يُحاور فيها وسيلةً أجنبية، يقدّم خطابًا عقلانيًا متوازنًا، يُظهر رجل الدولة أكثر من السياسي، لكنه في الوقت ذاته يُعمّق الفجوة بين الرئاسة والإعلام الوطني، الذي يجد نفسه في موقع المتفرّج على مشهدٍ هو طرفه الطبيعي.
رحلة الحوض الشرقي: مؤتمر بلا صحافة
جاءت زيارة الرئيس للحوض الشرقي، وهي الأكبر منذ سنوات، كحدث سياسي متكامل الأركان: حشود، شعارات، خطابات، ومشاهد مدروسة.
لكنّ المفارقة كانت في الطريقة التي أُدير بها الخطاب:
لا مؤتمر صحفي، لا أسئلة مفتوحة، بل بث مباشر لوصول الطائرة، ولقطات للرئيس يلوّح للجموع، ثم صمتٌ تامّ حتى منتصف الليل، حين تُصدر الوكالات الرسمية مقاطع “منقّحة” تحمل الرسائل التي أرادها القصر أن تُقال.
بهذا الشكل، لم يكن الرئيس يتحدث مع الصحافة، بل يُخاطب الشعب عبر “مونتاج” السلطة.
إنه خطابٌ لا يُلقى في لحظته، بل يُطبَخ ببطء حتى يكتمل إخراجه السياسي.
ومع كل زيارة، يزداد وضوح هذا النمط الجديد: أن تكون الصورة أهمّ من الحدث، وأن تكون الرسالة أقوى بعد التنقيح.
إستراتيجية الصمت المنضبط
في علم الاتصال السياسي، يُسمّى هذا النهج بـ”إدارة الصمت” أو Strategic Silence، وهي مقاربة تقوم على التحكم في تدفق المعلومات لتقليل مساحة الجدل وإبقاء المبادرة بيد الفاعل السياسي.
الغزواني يطبّق هذا النموذج بذكاء لافت:
لا يسمح بتعدد المفسّرين لخطابه؛
يحدّد توقيت ومضمون كل رسالة؛
يخلق توازنًا بين الحضور الرمزي والابتعاد التكتيكي.
لكنّ هذه الإستراتيجية، وإن منحت السلطة قدرة على ضبط المشهد، إلا أنها تحرمها من التفاعل الحيوي الذي تحتاجه الديمقراطية كي تتنفس.
فحين يتحوّل الإعلام إلى صدى لما يصدر عن الديوان، تفقد السياسة معناها التداولي، وتتحوّل إلى أحادية في الخطاب، مهما حسُنت النوايا.
الإعلام الوطني… من الفاعل إلى المتلقّي
ما يجري اليوم يعكس تحوّلًا عميقًا في العلاقة بين الدولة والإعلام في موريتانيا.
فبعد أن كان الصحفيون شركاء في صناعة الرأي العام، باتوا ينتظرون التسجيلات الرسمية ليعيدوا نشرها بصيغٍ مختلفة.
الأسئلة ممنوعة، والمقابلات نادرة، والمعلومة تمرّ عبر “الفلاتر” قبل أن تصل للجمهور.
لكنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في التعتيم، بل في تطبيع الصمت كأداة للحكم.
وحين يصبح الصمت سياسة دولة، يصبح السؤال نفسه فعلًا معارضًا.
بين التنمية والمأمورية… المعنى المؤجل
في تمبدغه، تحدث الرئيس عن التنمية، عن الشباب، عن المستقبل، وتجنّب الحديث عن 2029.
لكنه لم يحتج أن يتحدث عنها صراحة؛ فكل مشهدٍ، وكل خطابٍ، وكل حشدٍ، كان يجيب عنها دون أن تُطرح.
بهذا الأسلوب، جعل من التنمية لغةً سياسية مضمرة، ومن الصمت خطابًا طويل المدى.
السياسة في زمن الصورة
في النهاية، لا يمكن قراءة المشهد الحالي إلا في سياق تحوّلٍ أوسع يطال السياسة والإعلام معًا.
الرئيس الغزواني لا يهرب من الضوء، لكنه يختار زاوية سقوطه عليه.
يؤمن أن الصورة أقوى من السؤال، وأن الإنجاز خير من التصريح، وأن الزمن وحده كفيل بتفسير الصمت.
لكنّ التاريخ، وهو الحكم الأخير، لا يكتفي بالصورة؛ إنه يطالب بالرواية.
وحتى تُكتب رواية هذا العهد، سيبقى السؤال معلقًا بين السلطة والإعلام:
هل الصمت فنّ القيادة، أم غياب الحوار؟
وهل يمكن لبلدٍ ينشد التنمية أن يزدهر بلا نقاش؟